الحرمان من النوم… معركة إضافية في زمن الحرب

أكتب هذا المقال وأنا مستيقظة على صوت الانفجارات التي تبعد بضعة كيلومترات عن منزلي، ويتردّد صداها في الأفق وتخترق السكون الذي كان من المفترض أن يغمرنا بالراحة في ساعات الليل المتأخّرة.

هذه الأصوات تذكّرنا بأن النوم في هذه الأوقات ما هو إلا معركة إضافية نخوضها في ظلّ الأوضاع المقلقة في لبنان. كلّ صوت يهزّ جدران البيت يترافق مع اهتزاز في نفسنا، ويجعلنا نفكر في الأثر العميق الذي يتركه الحرمان من النوم على أجسادنا وعقولنا.

أثر الحرمان من النوم على الصحة النفسيّة

توضح الأخصائية النفسيّة سربيل قصير، في حديثها إلى رصيف22، أن الحرمان من النوم الناجم عن ظروف الحرب يترك أثراً نفسياً عميقاً، حيث يؤثّر مباشرةً على الصحة النفسية للأفراد: “التوتر والقلق هما من أولى النتائج التي يعاني منها الشخص الذي يعاني من الأرق في ظلّ الحرب والصراعات التي تحدث في لبنان. تبدأ هذه الاضطرابات بالتسلل إلى حياة الفرد اليوميّة، ما يؤدي إلى زيادة الحساسية المفرطة تجاه المواقف البسيطة والاعتيادية”.

اللافت أن الأشخاص الذين يعانون من قلّة النوم يُظهرون ردود أفعال سريعةً وغير متوازنة، ويمكن ملاحظة أن سلوكهم في المجتمع يصبح أكثر عدوانيةً أو تشتتاً: “غالباً ما نجد الأشخاص الذين لا يستطيعون النوم في هذه الظروف الصعبة غير قادرين على السيطرة على مشاعرهم، حيث يواجهون صعوبةً في الحفاظ على التركيز ومهارات التواصل الفعّالة، كذلك يصبحون أكثر عرضةً للانفعالات في المواقف العادية، وتقلّ قدرتهم على تحمّل الضغوط النفسية.”

تؤكّد قصير بأن فقدان النوم المتكرّر يؤثّر على المرونة العاطفية، ويجعل الأشخاص عرضةً لنوبات غضب أو انهيار في المواقف الصعبة، ما ينعكس بشكل سلبيّ على العلاقات الاجتماعية والأسريّة، حيث يصبح الفرد عاجزاً عن التفاعل الطبيعيّ مع من حوله.

“غالباً ما نجد الأشخاص الذين لا يستطيعون النوم في هذه الظروف الصعبة غير قادرين على السيطرة على مشاعرهم، حيث يواجهون صعوبةً في الحفاظ على التركيز ومهارات التواصل الفعّالة، كذلك يصبحون أكثر عرضةً للانفعالات في المواقف العادية، وتقلّ قدرتهم على تحمّل الضغوط النفسية.”

تكشف سينتيا، البالغة من العمر 23 عاماً، أنها لم تتمكّن من النوم في الأيّام الماضية، وأن خوفها على الوضع في لبنان يزداد يوماً بعد يوم: “إن الأمر مقلق للغاية، فأنا لا أستطيع النوم وأستمرّ في البكاء عندما أكون وحدي في غرفتي، لأنني لا أريد لعائلتي أن تراني ضعيفةً، بل أودّ أن أظهر لها القوّة، خاصةً أن لدي أخوات أصغر منّي”.

وتضيف لرصيف22: “أستمرّ في الحديث مع صديقاتي وأقاربي على الواتساب لأطمئنّ عليهم، على الرغم من أنّني أعلم أنّهم بعيدون قليلاً عن موقع الانفجارات، كما أعبّر لهم عن قلقي وخوفي، ولا أستطيع التوقّف عن البكاء، وإذا نمت، فإنني أنام لمدّة نصف ساعة أو ساعة على الأكثر.”

بدورها، توضح راشيل، أن التفكير المستمرّ في ما سيحدث وخلق سيناريوهات في عقلها، يجعلانها في حالة توتر وقلق دائم. هذا الأمر حسب قولها، يمنعها من النوم، فالأفكار السلبيّة تراودها دائماً، خصوصاً في ساعات الليل وعند حدوث أيّ انفجار أو سماع جدار صوت: “ما عم كون كتير مركزة بالبيت بس حدا يحكيني، وعم ضلّ فكّر إنو بركي هلق إجوا قصفونا”.

التأثيرات الجسدية

لا يتوقّف أثر الحرمان من النوم على الحالة النفسيّة فحسب، بل يمتدّ أيضاً إلى الجسد، وفق ما تشرح سربيل قصير: “التعب المفرط هو واحد من أكثر العوارض الجسدية شيوعاً، حيث يشتكي العديد من الأفراد من آلام المفاصل الناتجة عن التوتر المتزايد والضغط العصبيّ”.

“أستمرّ في الحديث مع صديقاتي وأقاربي على الواتساب لأطمئنّ عليهم، على الرغم من أنّني أعلم أنّهم بعيدون قليلاً عن موقع الانفجارات، كما أعبّر لهم عن قلقي وخوفي، ولا أستطيع التوقّف عن البكاء، وإذا نمت، فإنني أنام لمدّة نصف ساعة أو ساعة على الأكثر.”

تستكمل حديثها: “قلّة النوم يمكن أن تؤدّي إلى زيادة العصبية وسرعة الانفعال، بالإضافة إلى صعوبة التركيز التي تصبح عائقاً حقيقياً في الحياة اليومية. لذلك وفي محاولة لمقاومة تأثيرات الحرمان من النوم، يلجأ الكثيرون إلى استهلاك كميات كبيرة من الكافيين الذي سيساعدهم على الإبقاء مستيقظين. ولكن هذا الحلّ القصير الأمد غالباً ما يؤدّي إلى تسارع ضربات القلب وزيادة القلق، أمّا البعض الآخر فيلجأ إلى استخدام الكحول أو التدخين بكثرة، إمّا لتهدئة الأعصاب أو للمساعدة على النوم، إلّا أن هذه العادات يمكن أن تزيد من تدهور الحالة الصحية والنفسيّة”.

وبحسب قصير، فإن الحرمان من النوم المزمن يمكن أن يؤدّي إلى مشكلات صحيّة أوسع نطاقاً، مثل ضعف الجهاز المناعي وزيادة خطر الإصابة بالأمراض المزمنة كأمراض القلب وارتفاع ضغط الدم: “النوم ليس فقط للراحة، بل هو ضروريّ لإعادة شحن الجسم وإصلاح الأنسجة. فعندما يُحرم الجسم من هذه العملية المتكرّرة، يبدأ بالتدهور تدريجياً”.

الفئات الأكثر تأثّراً باضطرابات النوم

تعاني كاتيا، وهي أمّ لـ3 أولاد، من اضطراب في النوم في ظلّ ما يحدث في لبنان، فهي تبقى مستيقظةً ظنّاً منها أنّها باستطاعتها حماية عائلتها في حال حصل شيء سيئ في منطقتها.

تعبّر لرصيف22 عن قلقها قائلةً: “أخاف من الحرب لأنّني أخاف أن أخسر عائلتي وليس لأنّني ضعيفة. وأنا أعلم بأنّني حتى لو بقيتُ مستيقظةً فقد لا أستطيع حماية أسرتي، ولكن على الأقلّ سأحاول”.

واللافت أن كاتيا، باتت تحتسي القهوة بكثرة في الليل حتى تسيطر على النعاس وتبقى في حالة تأهّب.

على الرغم من أن اضطرابات النوم خلال النزاعات تؤثّر على جميع الفئات العمرية من دون استثناء، فإن شدّة التأثّر تختلف بحسب الظروف الشخصية لكلّ فرد.

تشير سربيل قصير، إلى أن الأفراد الذين يعيشون في المناطق المتضرّرة مباشرةً من الأحداث، مثل تلك التي تقع فيها الانفجارات كالجنوب أو البقاع أو الضاحية الجنوبية أو المناطق القريبة منها، يعانون أكثر من غيرهم من اضطرابات النوم.

هذه الاضطرابات تتفاقم عندما يكون هناك تهديد مباشر للحياة، سواء على المستوى الشخصي أو بسبب القلق على أفراد الأسرة. في هذه الحالة، يتحوّل النوم إلى تجربة مليئة بالقلق والخوف، حيث تستيقظ أذهان هؤلاء الأفراد طوال الليل في حالة استعداد للتعامل مع أي أمر طارئ.

توضح قصير، أن الأشخاص الذين يعيلون أسرهم، سواء كانوا شباباً أو كباراً في السنّ، يتحملّون عبئاً إضافياً، حيث يزداد شعورهم بالمسؤولية تجاه أفراد عائلاتهم في ظلّ هذه الظروف القاسية: “الضغط النفسيّ الناتج عن محاولة الحفاظ على أمان الأسرة يعزّز من حدة القلق والتوتر، ما يجعل النوم أكثر صعوبةً. هؤلاء الأشخاص غالباً ما يجدون أنفسهم في حالة يقظة دائمة، مترقّبين لأيّ خطر محتمل، ما يؤدّي إلى تدهور جودة النوم بشكل كبير”.

وتتابع حديثها: “تتأثّر الفئات الصغيرة مثل الأطفال والمراهقين/ ات بشكل مختلف، فبرغم أن الأطفال قد لا يدركون بشكل كامل حجم التهديد، إلّا أن الأصوات العالية والانفجارات المتكرّرة، تزرع فيهم شعوراً غير مفهوم بالخوف وعدم الأمان. هذا الشعور ينعكس على نومهم من خلال كوابيس أو استيقاظات متكرّرة خلال الليل. بالنسبة إلى المراهقين، إلى جانب القلق الذي يشعرون به تجاه سلامتهم، قد يواجهون صعوبةً في فهم أو تفسير الأحداث من حولهم، ما يضاعف من حالة التوتر النفسي التي يعيشونها”.

في السياق نفسه، توضح أن المغتربين الذين يعيشون بعيداً عن أسرهم في المناطق المتضرّرة يعانون من مزيج من الشعور بالعجز والخوف على أحبّائهم، ما يضيف بعداً آخر إلى اضطرابات النوم: “الأفراد الذين يعيشون في المهجر غالباً ما يعانون من اضطرابات النوم بسبب شعورهم بالعجز وعدم القدرة على تقديم الحماية الفورية لأسرهم. هذا الشعور بالانفصال، المقترن بالقلق المستمرّ على مصير أفراد الأسرة، يعزّز من حدة التوتر النفسي ويؤدّي إلى اضطرابات نوم دائمة، حيث يصبح من الصعب السيطرة على الأفكار والمخاوف التي تتسلّل إلى العقل ليلاً”.

غادر ميشال وزوجته منزلهما في بعبدا، وذهبا شمالاً، هرباً من الأحداث، ويعانيان من صعوبة في النوم، فهما قلقان على حياتهما وحياة المقرّبين منهما، على الرغم من أنّهما ابتعدا عن مواقع الأحداث. ويقول لرصيف22: “العدوّ لا يمكن الوثوق به، وهذا ما يجعلنا في حالة خوف ولا نعرف النوم”.

أمّا هلا، فهي شابة غادرت بلدها وعائلتها منذ سنتين تقريباً من أجل العمل في إحدى المحطّات الإخباريّة، تقول لرصيف22: “شي بيقرّف، شو بدو يحكي الواحد ليحكي… كتير ناس مفكرة إنو أنا رواق هون بدبي، بس لا أنا كمان متوترة، أوّلاً أهلي بلبنان لوحدن، أنا وأخواتي كلّ وحدة فينا ببلد، تاني شي أنا بشتغل بمحطّة إخبارية يعني بضلّ عم واكب شو عم بصير، وهالشي عم بأثر على نفسيتي وعلى نومي”.

إستراتيجيّات لتحسين جودة النوم في ظلّ النزاعات

في ظلّ هذه الظروف، تشير سربيل قصير، إلى أن هناك بعض الإستراتيجيات التي يمكن أن تساعد الأفراد على تحسين جودة النوم لديهم، من بينها الاستماع إلى موسيقى هادئة أو مشاهدة صور هادئة قبل النوم لتخفيف التوتر وتهدئة الأعصاب: “يجب الابتعاد عن التلفاز وسماع الأخبار السيئة قبل النوم، لأنّها تزيد من التوتر وتمنع الاسترخاء.”

كما تؤكّد الأخصائية على أهميّة ممارسة التنفس العميق أو التحدّث إلى شخص موثوق فيه للتعبير عن المشاعر المكبوتة، إذ إن مثل هذه الأنشطة تساعد الأفراد على التخلّص من الأفكار المزعجة والتركيز على مشاعر أكثر إيجابيةً: “حتى في أوقات الحرب، من الضروريّ أن نحاول السيطرة على أفكارنا ومشاعرنا السلبية من خلال اليوغا أو تمارين التأمّل”.

“الأفراد الذين يعيشون في المهجر غالباً ما يعانون من اضطرابات النوم بسبب شعورهم بالعجز وعدم القدرة على تقديم الحماية الفورية لأسرهم. هذا الشعور بالانفصال، المقترن بالقلق المستمرّ على مصير أفراد الأسرة، يعزّز من حدة التوتر النفسي ويؤدّي إلى اضطرابات نوم دائمة، حيث يصبح من الصعب السيطرة على الأفكار والمخاوف التي تتسلّل إلى العقل ليلاً”

وتشدّد سربيل، على أهميّة الحصول على 7 إلى 8 ساعات من النوم بشكل منتظم لضمان الصحة النفسية والجسدية: “حتى تقليل نصف ساعة فقط من دورة النوم يمكن أن يؤثّر سلباً على القدرة على التركيز والأداء في العمل”، مشيرةً إلى أن النوم هو ضرورة للحفاظ على التوازن العقليّ والجسديّ، خاصةً في ظل ّالظروف الصعبة: “النوم الكافي يعزّز القدرة على اتخاذ القرارات السليمة والتعامل مع التوترات اليومية بطريقة أكثر هدوءاً وعقلانيةً”.

في النهاية، لا يمكننا التقليل من شأن تأثير الحروب والنزاعات على الصحة النفسيّة والجسديّة، خصوصاً عندما يتجلّى ذلك في اضطرابات النوم.

النوم، الذي يُفترض أن يكون وسيلةً للراحة واستعادة التوازن، يتحوّل إلى معركة أخرى، نخوضها بين أصوات الانفجارات وقلق لا ينتهي. ومع ذلك، فإن فهم هذه التأثيرات والعمل على معالجتها هو خطوة ضرورية لضمان القدرة على الاستمرار في مواجهة هذه الظروف القاسية. 

Sandra El Abboud

Related post